فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وربُّك الغِنِيُّ} يجوز أن يكون الغَنِيُّ والرَّحْمَة خَبَريْن أو وصفين، و{إن يشأ} وما بَعْدَهُ خبرا لأوَّل، أو يكون {الغَنِيّ} وصْفًا و{ذُو الرَّحْمَة} خبرًا، والجُمْلَة الشَّرطيَّة خبر ثاني أو مُسْتَأنَف.
قوله: {مَا يَشَاءُ} يجُوز أن تكُون {مَا} واقِعَة على ما هُو من جِنْسِ الآدَميِّين، وإنَّما أتى بـ {مَا} وهي لِغَيْر العَاقِل للإبْهَام الحَاصِل، ويجُوزُ أن تكُون وَاقِعَة على غَيْر العَاقِل وأنَّه يأتي بجِنْسٍ آخر، ويجُوز أن تكُون وَاقِعَة على النَّوْع من العُقَلاء كَمَا تقدَّم.
قوله: {كَمَا أنْشَأكُمْ} في هو جهان:
أحدهما: أنه مَصْدَر على غِيْرِ المَصْدَر؛ لقوله: {ويَسْتَخْلِفْ} لأن مَعْنَى يَسْتَخْلِفْ: يُنْشيء.
والثاني: أنها نَعْتُ مَصْدَر مَحْذُوف، تقديره: استِخْلافًا مثل ما أنْشَأكُم.
وقوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ} متعلق بـ {أنْشَأكُم} وفي {مَنْ} هذه وْجُه: أحدها: أنها لابتداء الغايةِ، أي: ابْتَدأ إنْشَاءَكُم من ذُرِّيَّة قَوْم.
الثاني أنَّها تَبْعِيضيَّة، قاله ابن عطيَّة.
الثالث: بمعنى البدل، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب: هي كقولك: أخَذْتُ من ثَوْبِي دِرْهَمًا أي: بَدَله وعوضه، وكون مِنْ بمعنى البدل قَلِيلٌ أو مُمْتَنِعٌ، وما ورد منع مُؤوَّل؛ كقوله تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] أي: بَدَلَكُم.
وقوله: [الزجر]
جَارِيَةٌ لَمْ تَأكُلِ المُرَقَّقَا ** ولَمْ تَذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا

أي: بدل البُقُول، والمعنى: من أوْلاد قوم مُتقدِّمين أصْلهم آدَمُ.
وقال الزَّمَخْشَرِي: من أولاد قَوم آخرينِ لم يكُونُوا على مِثْلِ صِفَتِكُم، وهم أهْلُ سَفِينةَ نُوح.
وقرأ أبيُّ بنُ كَعْب: {ذَرِّيَّة} بفتح الذَّالِ، وأبان بني عُثْمَان: {ذَرِيَّة} بتخفيف الرَّاء مَكْسُور، ويروى عَنْه أيْضًا: {ذَرْيَة} بزنة ضَرْبَة، وقد تقدَّم تحقيقه، وقرأ زَيْد بن ثَابِت: {ذِرِّيَّة} بكسر الذال، قال الكسائي هُمَا لُغَتَان. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (134):

قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقرر أن له الوصفين الملزومين للقدرة، أنتج ذلك قوله جوابًا لاستعجالهم بالعذاب استهزاء: {إن ما توعدون} أي من البعث وغيره {لآت} أي لابد من وقوعه لأن المتوعد لا يبدل القول لديه ولا كفوء له يعارضه فيه {وما أنتم بمعجزين} أي بثابت لكم الإتيان بشيء يعجز عنه الخصم، فتمهد الأمر من جهته ومن جهتكم لوجود المقتضي وانتفاء المانع، وفي ذلك تقرير لأمر رحمته لأن القادر إذا اراد النقمة أخذ على غرة ولم يهدد، وإذا أراد الرحمة تقدم بالوعيد ليحذر الفائزون ويستسلم الخاسرون. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لآتٍ}
قال الحسن: أي من مجيء الساعة، لأنهم كانوا ينكرون القيامة، وأقول فيه احتمال آخر: وهو أن الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب، وأما الوعيد فهو مخصوص بالإخبار عن العقاب فقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لآتٍ} يعني كل ما تعلق بالوعد بالثواب فهو آت لا محالة، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه آخر الآية، وهو أنه قال: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا، فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتيًا، ولما ذكر الوعيد، ما زاد على قوله: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب. اهـ.

.قال السمرقندي:

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} يعني: الوعيد الذي أوعد في الآخرة من العذاب لآتٍ، يقول: لكائن لا خلف فيه {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} يعني: بسابقين الله بأعمالكم الخبيثة التي يجازيكم بها.
هذا قول مقاتل.
وقال الكلبي: {بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين أن يدرككم.
ويقال في اللغة: أعجزني الشيء أي: فاتني وسبقني. اهـ.

.قال الثعلبي:

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} لجائي كائن {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين سابقين أي حيث كنتم يدرككم. والإعجاز أن يأتي بالشيء يعجز عنه خصمه ويقصر دونه فيكون قد قهره وجعله عاجزًا عنه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} يحتمل أن يكون من أوعدت في الشرّ، والمصدر الإيعاد.
والمراد عذاب الآخرة.
ويحتمل أن يكون من وعدت على أن يكون المراد الساعة التي في مجيئها الخير والشر فغلّب الخير.
روي معناه عن الحسن.
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي فائتين؛ يقال: أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن ما توعدون لآت} ظاهر ما العموم في كل ما يوعد به.
وقال الحسن: من مجيء الساعة لأنهم كانوا يكذبون بها.
وقيل: من الوعد والوعيد.
وقيل: من النصر للرسول لكائن.
وقيل: من العذاب {لآت} يوم القيامة.
وقيل: من الوعد يوم القيامة لقرينة {وما أنتم بمعجزين} والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدّم خصوصًا وإما أن يكون للعموم مطلقًا فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد والعقائد ترى ذلك؛ انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي: الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب فهو آت لا محالة، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه أنه قال: {وما أنتم بمعجزين} أي لا تخرجون عن قدرتنا وحكمتنا فلما ذكر الوعد جزم، ولما ذكر الوعيد ما زاد على {وما أنتم بمعجزين} وذلك يدل على أن جانب الرحمة غالب فتلخص في قوله: {ما توعدون} العموم ويخرج منه ما خرج بالدليل أو يراد به الخصوص من الحشر أو النصر أو الوعيد أو الوعد أي بلازمهما من الثواب أو العقاب أو مجموعهما ستة أقوال.
وكتبت أن مفصولة من ما وما بمعنى الذي وفي هذه الجملة إشعار بقصر الأمل وقرب الأجل والمجازاة على العمل.
{وما أنتم بمعجزين} أي فائتين أعجزني الشيء: فاتني أي لا يفوتنا عن ما أردنا بكم.
قال ابن عطية: معناه بناجين وهنا تفسير باللازم. اهـ.

.قال ابن كثير:

قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: ولا تعجزون الله، بل هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم ترابًا رفاتًا وعظامًا هو قادر لا يعجزه شيء.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا محمد بن حمير، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدُرْي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا بني آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى. والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين». اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} أي الذي توعدونه من البعث وما يتفرّع عليه من الأمور الهائلةِ، وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على الاستمرار التجددي {لآتٍ} لواقعٌ لا محالة كقوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع} وإيثارُه عليه لبيان كمالِ سرعةِ وقوعِه بتصويره بصورة طالبٍ حثيثٍ لا يفوته هاربٌ حسبما يُعرب عنه قولُه تعالى: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين ذلك وإن ركِبتم في الهرب متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ كما أن إيثارَ صيغةِ الفاعلِ على المستقبل للإيذان بكمال قربِ الإتيان، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الإعجازِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِ الإعجاز فإن الجملة الاسميةَ كما تدل على دوام الثبوتِ تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرفُ النفذِ على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ كما حُقق في موضعه. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} أي إن الذي توعدونه من القيامة والحساب والعقاب والثواب وتفاوت الدرجات والدركات، وصيغة الاستقبال للدلالة على الإستمرار التجددي، و{مَا} اسم (إنَّ) ولا يجوز أن تكون الكافة لأن قوله سبحانه: {لآتٍ} يمنع من ذلك كما قال أبو البقاء، وهو خبر (إنَّ)، والمراد: إن ذلك لواقع لا محالة، وإيثار آت على واقع لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي جاعلي من طلبكم عاجزًا عنكم غير قادر على إدراككم.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى وما أنتم بسابقين، وإيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بقرب الإتيان والدوام الذي يفيده العدول عن الفعلية إلى الإسمية متوجه إلى النفي فالمراد دوام انتفاء الإعجاز لا بيان دوام انتفائه، وله نظائر في الكتاب الكريم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {إن يشأ يذهبكم} [الأنعام: 133] فإنّ المشيئة تشتمل على حالين: حاللِ ترك إهلاكهم، وحاللِ إيقاعه، فأفادت هذه الجملة أنّ مشيئة الله تعلّقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب، ولك أن تجعل الجملة استئنافًا بيانيًا: جوابًا عن أن يقول سائل من المشركين، متوركًا بالوعيد: إذا كنّا قد أُمهلنا وأخِّر عنَّا الاستئصال فقد أُفلتنا من الوعيد، ولعلّه يلقاه أقوام بعدنا، فورد قوله: {إن ما توعدون لأت} مورد الجواب عن هذا السّؤال النّاشيء عن الكلام السّابق بتحقيق أنّ مَا أُوعد به المشركون، واقع لا محالة وإنْ تأخّر.
والتّأكيد بـ {أنّ} مناسب لمقام المتردّد الطالب، وزيادة التّأكيد بلام الابتداء لأنَّهم متوغّلون في إنكار تحقّق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخارهم به، فإنَّهم قالوا: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] إفحامًا للرّسول صلى الله عليه وسلم وإظهارًا لتخلّف وعيده.
وبناء {توعدون} للمجهول يصحح أن يكون الفعل مضارع وَعد يَعِد، أو مضارع أوْعد، يُوعد والمتبادر هو الأوّل.
ومن بديع الفصاحة اختيار بنائه للمجهول، ليصلح لفظه لحال المؤمنين والمشركين، ولو بني للمعلوم لتعيّن فيه أحد الأمرين: بأن يقال: إنّ ما نعدكم، أو إنّ ما نُوعدكم، وهذا من بديع التّوجيه المقصود منه أن يأخذ منه كلّ فريق من السّامعين ما يليق بحاله، ومعلوم أنّ وعيد المشركين يستلزم وعْدًا للمؤمنين، والمقصود الأهمّ هو وعيد المشركين، فلذلك عقّب الكلام بقوله: {وما أنتم بمعجزين} فذلك كالتّرشيح لأحد المحتمَلين من الكلام الموجَّه.
والإتيان مستعار للحصول تشبيها للشيء الموعودِ به المنتظر وقوعه بالشّخص الغائب المنتظرِ إتيانُه، كما تقدّم في قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذابُ الله بغتة أو جهرة} في هذه السورة.
وحقيقة المُعجز هو الّذي يَجعل طالب شيءٍ عاجزًا عن نواله، أي غير قادرين، ويستعمل مجازًا في معنى الإفلات من تَناوُل طالبِه كما قال إياس بن قبيصَة الطائي:
ألم تَرَ أنّ الأرضَ رحْب فسيحة ** فهَل تُعْجزَنِّي بُقعة من بِقاعها

أي فلا تُفلت منّي بقعة منها لا يصل إليها العدوّ الّذي يطالبني.
فالمعنى: وما أنتم بمعجزي أي: بمفلتين من وعيدي، أو بخارجين عن قدرتي، وهو صالح للاحتمالين.
ومجيء الجملة اسميّة في قوله: {وما أنتم بمعجزين} لإفادة الثّبات والدّوام، في نسبة المسند للمسند إليه، وهي نسبةُ نفيه عن المسند إليه، لأنّ الخصوصيات الّتي تعتبر في حالة الإثبات تعتبر في حالة النّفي إذ النّفي إنَّما هو كيفيّة للنّسبة.
والخصوصياتُ مقتضياتُ أحواللِ التّركيب، وليس يختلف النّفي عن الإثبات إلاّ في اعتبار القيود الزائدة على أصل التّركيب، فإنّ النّفي يعتبر متوجّهًا إليها خاصّة وَهي قيود مفاهيم المخالفة، وإلاّ لبطلت خصوصيات كثيرة مفروضة مع الإثبات، إذا صار الكلام المشتمل عليها منفيًا، مثل إفادة التجدّد في المسند الفعلي في قول جؤية بن النضر:
لا يألفُ الدرهمُ المضروب صرّتَنا ** لكن يمرّ عليها وهو منطق

إذ لا فرق في إفادة التّجدّد بين هذا المصراع، وبين أن تقول: ألِفَ الدّرهم صرّتنا.
وكذلك قوله تعالى: {لاَ هُنّ حِلّ لهم ولا هُم يحِلّون لهنّ} [الممتحنة: 10] فإنّ الأول يفيد أنّ نفي حِلّهنّ لهم حكم ثابت لا يختلف، والثّاني يفيد أنّ نفي حِلّهم لهُنّ حكم متجدّد لا ينسخ، فهما اعتباران، وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى: {واللَّه لا يحبّ كلّ كفّار أثِيم} في سورة البقرة (276). اهـ.